كلمة الراعي
الإخوة والأبناء الأحباء،
ألم نكن نحن كذلك
في رسالتي إليكم أيها الأحبة، كتبت عن تعلق الشعوب الأرثوذكسية في البلقان والسلافية عامة بهويتها الإيمانية، ونقلت ما رأيته من تقوى وحضور أولئك في الأديار ومناسك القديسين.
رأيتهم يحضرون بالآلاف هادفين الى تأكيد إنتمائهم لمن كانوا من أهل العالم، وحسبوا أنفسهم عنه غرباء، وقد عاشوا به، وقطعوا مسيرتهم الزمنية ككل الناس متعرّضين لأخطار وضيقات وصعوبات، ولكنهم كما يقول الرسول بولص: “نحن فقراء ونغني الكثيرين. نحن مهانون وأنتم مكرمون…” يؤكدون إنتماؤهم لأعمدة حضارتهم الروحية والذين كان لهم الفضل في إغناء هويتهم.
لاحظت في ذلك الحضور البساطة والفرح. لا أطعمة مفروشة على الأرض، ولا ثياب غير محتشمة. ولا طاسات الشراب والمسكر تدور على الناس وبين الناس، ولا مشاوي من النذورات التي يأكلها الذين نذروها. ومن بين الموجودين من قطع الليل موجوداً في ساحات الدير. يمكن أن يلاحظ أحدنا وجود مكان لشراء بعض الأشياء والأشغال الدالة على مكانة الدير، وشفيعه وتاريخه. من الناس من يصعدون تلك المناطق الصعبة حفاة، ولا يرضون إستقلال بعض السيارات الصاعدة بركابها. والسلام يعمُّ المكان. فلا تزاور ولا خصام، ولا أعمال أو إشارات غير لائقة، وكل ذلك لأنهم تعودوا أن يتصرَّفوا التصرّف المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب.
وأنا أتأمل بهذه المناظر التي رأيتها في بلاد عديدة سألت نفسي. ألم نكن نحن هكذا في أعياد القديسين الكبار. عيد السيدة – عيد مار الياس – عيد مار جرجس، وغيرها من الأديار والأعياد. إننا نسمع
بحضور الناس الى تلك المناسك حفاة لا يرفضون فقط إستخدام السيارة أو أي أداة نقل أخرى، بل وحتى إنتعال أحذيتهم برغم ما يتعرضون له من صعوبات، وعورة الطريق. كانوا يذهبون ويتأملون ويصلون ويطلبون من شفيع المكان الشفاعة لأجل مرضاهم، وليوفِّق الله أولادهم، ولأجل تسهيل قضاء إحتياجاتهم.
ألم نكن نحمل معنا بعض الفرش، والأشياء البسيطة لنفترشها وننام تحت العراء، ونحيي نجوم السماء، والفرح يملأ قلوبنا، والرضى يعم عواطفنا، والبهجة تصبغ المكان والوجوه.
لازلنا نتذكر تلك الأيام، ونغتبط لمجرَّد ذكراها. ولكن ما الذي جعلنا نتغيَّر، وتقسوا قلوبنا عن إدراك الفرح الكامن على صفحات البساطة. ما الذي جعل أعيادنا فارغة من فحواها الروحي. حتى أننا إستبدلنا الإحتفالات الروحية والحضور في الأديار والمناسك، وحضور القداس ببعض الفرح العالمي الذي يؤدي فقط الى فراغ الناس من روح الله، والسعي وراءه. بل وإلى عدم إدراك القيم الإجتماعية وأهميتها باستقرار الفرد والجماعة وبناء الوطن.
نعم أيها الإخوة الأحباء، كنا كأولئك، وأسأل الله أن نثبت فيما هم قد ثابروا عليه، وأن لا نصير في كثير من الأمور التي قد صاروا هم إليها. لأن الفرح أمره بسيط يعتمد على بساطة حياتنا وقناعاتنا، وليس على السعي والذي لا يتوقف. أن نكون على تواصل مع نبع السعادة، ومع الذين صاروا سبلاً لنعمته ليتقدس بهم العالم بشفاعتهم تكون معنا دائماً.
هذه العلاقة أدت الى تشبه آبائنا بأولئك الذين صاروا أوديةً للنعمة لتصل الى العالم. تشبهوا بهم وكأنهم حاضرون في حياتهم. كانوا مثلهم صادقين، مثلهم متواضعين، مثلهم محبين، مثلهم معطائين، مثلهم بريئين لا يدخل الشر في قلوبهم، وكانت هذه الفضائل تتكثف بمقدار كثرة الصلاة والتواصل مع الله وقديسيه.
نسأل الله أن نعود الى أزمنة القداسة، وأن نعيدها الى حياتنا كما كان آباؤنا وأجدادنا لكي ننهل من ينابيعها، ونكون لها أداة توصيل فيتقدَّس الزارع والحاصد معاً.
باسيليوس
مطران عكار وتوابعها