كلمة الراعي
الإخوة والأبناء الأحباء،
في توجهي إليكم في العدد الماضي، تطرقت بشيء من الاجمال الى الأحوال في أبرشية المكسيك وأميركا الوسطى وجزر الكاريببي، وكيف وصلت أحوالها بقيادة ورعاية متروبوليتها أنطونيوس الشدرواي صاحب المكانة الهامّة في تلك البلاد، بحيث أن رئيس الدولة المكسيكية الموجود في قطر لأسباب رسمية وعلاقات تجاريّة ودبلوماسية قد إتصل بسيادته من الدوحة لمعايدته في يوم عيده.
والآن سأنتقل الى المرحلة الثانية من وجودي في ذلك المقلب الثاني من الأرض حيث استضافت تلك البلاد أبناءنا المهجرين لأسباب شتى، وأمَّنت لهم الأمن والإطمئنان، والقوت بعيش إذا ما قارناه بما هي حالُ بلادنا، قلنا عنه أنَّه هنيء. ولن ننسى أن الإنسان المشرقي من حوض البحر الأبيض المتوسط، هو إنسان عامل فاعل منتج وبنّاء.
نعم لقد ساعد المشرقيون على النهضة في تلك البلاد، وقاموا بأعمال جليلة. ولهذا حازوا على مقامات عالية في شتى المجالات التجاريّة والصناعية، والإجتماعية، والزراعية، والعمرانية والسياسية. وبرغم بعدهم عن أوطانهم الأصلية إلا أن عدداً كبيراً منهم، وهم متحدرون من أصول من هذه البلاد، لا زالوا على علاقتهم وإرتباطهم بكنيستهم، ويفتخرون بالإنتماء إليها، ومن الممكن أن يكون البعض قد تليتن أو صار بلا هويّة دينية، ويعود ذلك إما الى أن الكنيسة قد أرسلت لرعايتهم (عمال باطون) بمعنى أناس كان همهم مداخيلهم المالية، أو كانوا عبئاً على الرعية.
وبالرغم من قساوة ظروف الناس الذين تعرفنا عليهم، أو كنا قد عرفناهم من الوطن، ذكرتني أقوالهم ومشاعرهم، وتوجهاتهم الإيمانية بالمهاجرين الأوائل الذين ذهبوا أولاً الى تلك المناطق ثم استقدموا
كهنتهم ورعاتهم، وأنشاؤا النواة الأولى للرعايا، ثم للأبرشيات. وأدركت الكنيسة الإنطاكية مسؤوليتها تجاه المهاجرين من أبنائها، فأخذت تلك الرعايا الجديدة حيّزاً هاماً من إهتمام آباء المجمع، ولكن لم يصل الى مرحلة الإهتمام الخلاّق. ولكن العمل هناك كان خلاّقاً بوجود بعض المطارنة الخلاّقين.
وهنا سأكتفي بما شاهدته في أميركا الشمالية التي زرتها بمناسبة تنصيب متروبوليتها جوزيف زحلاوي، وكانت الزيارة للمناطق الشرقية: نيويورك، نيوجرسي وواشنطن.
والزيارة الثانية هذا العام وكانت لولايتي، كاليفورنيا وتكساس. حيث إلتقينا هناك عدداً من أبناء الجالية الإنطاكية الذين إقتلعتهم أحوال بلادنا من بلداتهم، وقراهم، وأعمالهم، ورمت بهم من مشرق الشمس الى مغربها. من الشرق الى أقصى غرب الكرة الأرضية.
وعلى ما يظهر، ان الغربة لا تضيّعُ الأصول، ولا الأخلاق، ولا الثبات. وكدت أجزم أن أبناءنا هناك كلهم أخلاق، وثبات، وأصول، ولكن بعضهم قال لي وأنا أتحدث معه: يا سيدنا إن كل الذين إلتقيت بهم هم من أصحاب العقول والأصول والثبات. فالذي كان في بلاده من أصحاب الأصول، لا زال كذلك. ومن كان على غير ذلك، بقي على غير ذلك. فالذين إلتقيت بهم هم من أصحاب النخوة، والشهامة والوطنية، ولا يحابون لأنهم ليسوا بحاجة للمحاباة، يحبون أوطانهم، متعلقين بكنيستهم، يودون أن يسمعوا عن مرابع طفولتهم، وذكريات بلداتهم، ولهذا نرى أغلبهم يذهبون الى الكنيسة لأنها ملاذهم في غربتهم، والحصن الذي يحفظ أصولهم.
لقد كان لنا لقاءات عديدة مع أناس من مناطق مختلفة، ومن أبرشيات الوطن المتعدِّدة، وقد دلت أنواع محبتهم على تعدد مشارب أصولهم.
أحد أسباب زيارتي لولاية كاليفورنيا كان القداس الذي أقمته مع سيادة الأسقف ديمتريوس شربك عن روح المغفور له خيرالله حنا موسى، وللحديث عنه نحتاج الى صفحات. فوجدنا أن الكنيسة التي يرعاها الأب المتقدم في الكهنة الدكتور ميشيل نجم عميد كلية اللاهوت (يوحنا الدمشقي) سابقاً. تقيم ثلاث قداديس: الساعة الثامنة، والتاسعة والنصف والساعة الحاديّة عشرة.
كانت الكنيسة ممتلئة بالمؤمنين ذوي الأصول الإنطاكية، والذين مع الأب ميشيل نجم أصروا على إقامة القداس باللغة العربية فكان لهم ذلك ببركة المتروبوليت جوزيف الزحلاوي، وترتيب مجلس رعية كنيسة القديس نيقولاوس الإنطاكي – كاليفورنيا. وبحسب ما عرفناه أن القداس الأول هو للقادمين من أبناء البلاد الى الكنيسة الأرثوذكسية عن طريق بوابة إنطاكية، وكذلك قسم من الذين حضروا في القداس الثاني، والذي يتلى باللغة الإنكليزية.
في بلداتنا لا تبعد الكنيسة في أقصى الأحوال عن بيوتنا مسافة دقائق سيراً على الأقدام، ولا نأتي الى الكنيسة إما لعدم الإيمان، أو متعللين بعلل الخطايا، وفي بعض الأحيان لأننا لا ندرك أهمية الحياة الروحية في بناء العائلة والفرد والمجتمع. أما هناك فيأتي المصلون من مسافة بعيدة تصل أحياناً الى ثلاث ساعات سفراً بواسطة السيارة، ويشعرون أنهم برغم المسافات إنهم قريبون من الكنيسة، ولا يتعللون بعلل الخطايا، ولا يتذمرون.
فأدركت عندئذ أن البعد هو في القلب والفكر والمنطق والهمّة. فمن ملأ الإيمان الحي قلبه كان قريباً من الكنيسة قلباً وفكراً ومنطقاً، وتنهضه الهمة للتوجه برغم بعد المسافات الى الصلاة ولقاء الله، والأحبة.
ومن لم يكن قريباً من الكنيسة لا قلباً ولا فكراً ولا عيشاً، تقعده الهمة الكسولة عن قطع بعض عشرات من الأمتار، ويبقى مقبوراً في هموم الحياة وملاذها وأتعابها.
(يتبع)
باسيليوس
مطران عكار وتوابعها