كلمة الراعي
الإخوة والأبناء الأحباء،
في مديح القديس يوحنا الذهبي الفم عن القديسة ذروسيذا يتطرّق الى مقولة كانت شائعة بين الناس في ذلك الوقت، وكانت أحد المفاهيم المغلوطة التي رأى أنَّه عليه أن يصلحها لهم.
يتمحور القول حول مفهوم الموت المجيد. والموت الرزيل، ويتعجب قديسنا من موقف الناس، حتى المؤمنين، بأن من يموت في أرضه، وتعطى له الكرامات في جنازته، وينقل محاطاً بأهله، ومحمولاً على أكتاب أولاده مدرجاً بالسباني من مالهُ، أنَّه قد مات ميتة كريمة ثم يعدِّد لهم ما يمكن أن يكون قد إكتنف حياته من سيئات. ثم يقول لهم أن ما تقولونه أن فلاناً قد مات ميتة الكلاب ليس هو عين الصواب. لأن الذي يموت ميتة الكلاب هو الذي ينتقل من هذه الحياة بدون أن يكون محملاً بأثمار الرحمة وغير مجلبب بجلباب الفضيلة.
يعطي قديسنا مفهوماً آخر لما هو مكرّمٌ، ولما هو فاضل في حياة الإنسان، والمفهوم الذي يعطيه عن الرؤية والإهتمام لحادثة الموت، وما يتبعها ينطبق على وجوب الرؤيا الصحيحة لكل الأمور، ووجوب قراءة الأمور على ضوء الكلمة الإلهيّة القادرة أن تصيّرنا حكماء في هذه الحياة وفي الآتية.
لا يمكننا أن نصل الى هذه الرؤيا، بإمكاناتنا البشريّة، وتطلعاتنا لقراءة المفاهيم بما يتناسب مع المعطيات المجتمعيّة. فهذه لا تصلح أن تكون مقياساً لحياة المؤمن حتى ولا لحياة الإنسان العادي. فالناس محكومون بالنقص والأهواء المتضاربة، وفي كثير من الأحيان يتلوث الضمير فيخطئ الإنسان تحديد الهدف، واستيضاح السبل، ويقع في الخطأ من غير أن يعرف أو يدري هل هو على خطأ أو في السبل القويمة.
أما الكلمة الإلهية بحسب كلام القديس فهو الصالح أن يكون المقياس الذي لا يخطئ، والإنسان الذي يسير بحسب رضى الله لا يمكن أن يخطئ عادة، وإذا أخطأ يعرف أنَّهُ أخطأ، لأنه يقيِّم أعماله وتصرفاته وكلماته بناء على الرؤيا التي اكتسبها من الإستعانة بالكلمة الإلهيّة، وبها إستنارت بصيرته فيعرف أن يميّز، وهذا ما يدعوه الآباء القديسون، فضيلة التمييز.
نعود الى حالنا مع الموت، ومفهومنا له.
أولاً بحسب العادات الإجتماعيّة. الموت مدعاة للإنقطاع عن الصلاة. في هذه الرؤيا جانب صحيح وآخر سلبي. فالجانب الإيجابي في رؤية الإنقطاع عن الصلاة بسبب موت أحد الأحباء، أو أفراد العائلة أو الأقرباء، إعتبار الإنسان نفسه في الحزن. وفي الصلاة تواصل مع الجماعة وفيها فرح روحي وعالمي. ولكن ما يبطل قيمة هذا المفهوم في الإنقطاع عن الصلاة هو الإبتعاد عن الحياة الروحيّة، وإهمال الإجتماع مع الإثنين أو الثلاثة (الجماعة) ليكون الرب بينهم، وكذلك الإبتعاد عن المناولة. ويجعل الإنسان يتعمق في وحدة اليأس ومهاويه ويسيطر عليه الحزن.
ونحن نعرف أن ما يستفيده منا المنقلون عنا للحياة الأخرى، هو في حسنة نؤديها لنفع أرواحهم، وصلاة نقيمها للإرتقاء بهم في مراقي النعمة والقداسة، إن كان عليهم خطايا، لأجل طلبة الأبرار يرفعها الله عنهم.
في الموت يغيِّم الظلام الروحي والنفسي على العقل البشري فيشعر حتى المؤمنين أنَّ الدنيا قد إنتهت، وهي لا تساوي شيئاً، ولكن من غير أن يؤدي هذا التفكير الى تحسن في أخلاقهم، وتبدلٍ في أفكارهم ورسم أهدافها، لأن حزنهم يعود الى عالميتهم ومادياتها كما كانوا عليه قبل وفاة شخص عزيز.
كثيرون من المؤمنين يعتبرون الموت خسارة. هكذا هو بالفعل إذا قرأناه تحت منظار التأثير النفسي والحساب التجاري. أما عند الإنسان الروحي فيقول مع بولص الرسول: “الموت بالمسيح ربح لي” “لي إشتهاء أن أنطلق”، لأن الإنسان المؤمن يعرف يقيناً وبإعلانات إلهيّة أن الحياة الحاضرة لا تساوي شيئاً أمام الحياة العتيدة. والإنسان المؤمن الذي يعيش الموت عن العالم، لا يعود الموت الثاني يهمَّه بل يراه ربحاً لا يعوَّض بأي شيء من أفراح ومكاسب هذه الحياة.
لدينا الكثير من المفاهيم والعادات المرتبطة بالموت، ومنها نرى بقية الأمور في هذه الحياة ونقيِّمها، علينا أن نغيِّرها، إذ دعوتنا ليست من لحم ودم.
فلنكن أبناء الروح مرتقين الى مستويات دعوتنا، ولا ننجرف في شؤون العالم، ورؤيته كالذين لا رجاء لهم.
أسأل لكم من الله الصحة والعافية والنجاح في هذه الدنيا والآخرة لنكون بالفعل وفي كل شيء على صورة الله ومثاله. محققين دعوتنا أن نكون أمة مقدسة وكهنوت ملوكي.
باسيليوس
مطران عكار وتوابعها