آخر الأخبار
الرئيسية 5 كلمة الراعي 2017 5 كلمة الراعي – العدد28

كلمة الراعي – العدد28

كلمة الراعي

الإخوة والأبناء الأحباء،

بين الفكر والتربية

يقول ربنا يسوع المسيح: من فضلة القلب يتكلم اللسان”. وللقلب رمزيته في علم الكلام واللاهوت، إذ هو مركز التفكير، وخاصة التفكير العاطفي. وللقلب دور كبير في التفكير النسكي. إذ يقول الآباء لكي تستقيم حياة الإنسان عليه أن لا يستعمل تفكيره فقط بل أن يمزج بين تفكيره وعواطفه، وهو ما يسمونه إنزال العقل الى القلب.

وبحسب القول أعلاه الأفضل أن يكون الكلام مغمساً بطيب الشعور الصالح. نتساءل كيف يمتلئ القلب. والتحديد أعلاه لا يحدِّد القلب الطيب، أو الشرير، بل يتكلم عن أصناف الناس عامة. فمن اعتاد على الحياة الصالحة، والقراءة الصالحة، وسماع أقوال الناس الطيبين الصالحين يمتلئ ذهنه من الأفكار الصالحة. ومن اعتاد على غير ذلك صار ذهنه على غير ما وصفت عند الصالحين والأخيار.

فالقلب المليء بالفكر الصالح سيطلق اللسان بالكلام الصالح، هذا ما يعرفه صاحبه، لأن الإنسان يتطوَّر الى أن يصبح صنوَ ما يفكر هذا إن كان صادقاً والإنسان عندما ينزل فكره الى قلبه سيكون عمله أيضاً صالحاً.

فمن القلب، أي من الإرادة، إذا جاز التعبير ينطلق العمل الصالح. فللفكر ومحركاته ومتحركاته دور كبير في شخصية الإنسان، وبريق وجهه ولمعان عينيه. فمن أراد أن يربي أبناءه عليه أن ينتبه الى ما يخزّنونه في قلبهم أي عقلهم من أفكار وتصوّرات وخاصة في سنّ الطفولة. ولكن الإنسان يكتسب التربية باستمرار، ولا يتوقف ذلك في فترة من الفترات. يرد في بستان الرهبان القول: “إذا عاشر إنسان في

الدير الناس الصالحين سنة يتقدَّم يوماً، وإذا رافق المتهاونين يوماً يتراجع وضعه سنة”. نعم، وهذا ينطبق على الإنسان عندما يغادر أهله ومجتمعه ويحلُّ في مجتمعات أخرى، فيتغيّر ولو بصعوبة إذا استمرَّ بالوجود في ذلك المجتمع الآخر. ولكن في التربية المبكرة هناك ثوابت أساسية تبقى في ذهن الشخص لأسباب ما. وهنا يردني قول للقديس بايسيوس لأحد الآباء أورده إليّ شخصياً. أن أباً في إحدى القرى، رب عائلة، ربى إبنه على الحياة في الكنيسة، والذهاب الى الجبل المقدّس، والإعتراف والصوم. ولكن عندما ذهب الشاب الى الجامعة في أثينا تغيَّرت حياته، وانقلبت طباعه، وانعكست مسيرته فصار بلا صوم، بلا ترتيب، بلا لياقة، وانجرف بتيار الشباب الجامعي الحديث الذي لا ضوابط له، مما جعل الأب في حالة من الخوف والإضطراب فاستجار بالأب بايسيوس في الجبل المقدَّس، وروى ما حدث معه فطمأنه الأب بايسيوس، ونصحه بألا يخاف، لأن إبنه قد احتفظ بكاسيت في ذهنه مما اكتسبه في الحياة، في البيت، وأكد له أنه سيعود الى الحياة الفاضلة التي تليق بشاب مسيحي مؤمن.

أيها الإخوة والأبناء الأحباء،

يوصي الرسول بولص تلميذه تيموثاوس قائلاً له: “واظب على مطالعة الكتب المقدَّسة القادرة أن تصيّرَك حكيماً للخلاص”. ويوصي في مكان آخر الآباء كيف يرعون أبناءهم، وبالتالي كيف يوجهونهم بالكلمة الطيبة، والقدوة الصالحة، والعمل الحميد. لأن فكر الإنسان فيه ذاكرتان، الأولى الذاكرة العلميّة (الفكريّة)، والذاكرة العاطفية وهي الأبقى.

هذا ما أردت في هذا الصباح المبارك أن أتفكَّر به معكم لأن الدَهَش قد أصاب العقول، وأبكم الألسنة، وشلَّ الإرادة، وحيَّر العقول بسبب المتغيرات السريعة التي طالت حياة الناس كافة. لم تبقِ على شيء على حاله بالنسبة لكل العلاقات والمعاملات، والمجتمعات بكافة جوانبها. ولكن قد ذكرنا مراراً وتكراراً أن المسيحيّة قد استخدمت الفلسفة العالمية لخدمة الإيمان، ولم تخضع الإيمان للفلسفة والعالم. وإذ لنا نعم الروح القدس ذاتها، والمواهب نفسها علينا نحن أن نمسحن العالم الجديد، ونجذبه نحو إرادة ربنا يسوع المسيح. وكما رتَّبت الكنيسة للسابقين لنا على كلام الله، والإقتداء بحياة القديسين. هكذا تدعونا للإنكباب على الكلمة الإلهيّة حفظاً ودراسةً وإقتداءً، لأنها هي هي الثابتة والباقية والغير متغيِّرة لصدورها عَمَن هو هو أمس واليوم والى الأبد.

وإذ لكم اللهفة والرغبة على تربية أبنائكم كما كان لأبائكم في مجال تربيتكم فصرتم أناساً مجدِّين أصحاب مسؤوليات، وعائلات لا تخافون، ولا تهابون بل تفتخرون، ويفتخر العالم بكم وبلياقتكم، وحسن تربيتكم. هكذا سيصير أبناؤكم إذا اتبعتم مثل السَّلف الصالح بأن لا تسمحوا لشخصياتكم أن تكون ضعيفة أمام أبنائكم، ولا تسمحون لأنفسكم بالتهاون في التصرُّف، أو الإتيان عكس ما تقولونه، وفوق كل هذا غزّوا تفكيرهم بالكتب المقدَّسة القادرة أن تصيّرهم حكماء للحياة وللخلاص. نمّوا شخصياتهم بمثَلكم الصالح المنكب على كل إستقامة وفضيلة بما يواجهكم وتواجهونه. لا تسمحوا لأنفسكم أن يسمعوا بكلمة نابية من أفواهكم، لأن الكثيرين يعلمون الأطفال الشتائم، والكلام غير الحسن، ويفرحون بذلك ويتفاخرون، وعندما يكبرون يتساءلون من أين لهم هذا الكلام. درّبوهم على مطالعة الكتب الحميدة المنمّية للحياة الأخلاقية إن كان في الكتب الدينية، والكتب الدنيوية. لأن التربية (التصرّف، أو الإعداد للحياة) لا ينفصل إطلاقاً عن ما يختزنه الإنسان في فكره العلمي والعاطفي.

ليعطكم الرَّب الإله كلَّ نعمة وقوّة للقيام بمهامكم بدون تردد ولا محسوبيات، بل لتكونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل. وليكملكم بكل جمالات خلقه التي رآها حسنة جداً.

باسيليوس

                     مطران عكار وتوابعها