كلمة الراعي
الإخوة والأبناء الأحباء،
في رسالة القديس بولص إلى أهل كورنثوس الإصحاح الأول. جاء بالروح القدس على لسانه: “لأن الحماقة من الله أكثر حكمة من الناس، والضعف من الله أوفر قوة من الناس”.
هذه الكلمات صعب سماعها، وخاصة لمن ليس له إطلاع على الكتاب المقدّس، وليس له المعرفة الحقيقيّة بقوة الكلمات المدوّنة فيه، وخاصة في بعض الغريب منها. ولعلّهُ هذا ما قصده القديس باسيليوس الكبير في رسالته الى الشباب عندما قال: علينا أولاً أن نقرأ الحكمة العالميّة، وبعد ذلك ننتقل الى كتبنا المقدَّسة لأنها أسمى وأعلى.
التساؤل الأوّل هو كيف يأتي الله بالجهالة، أو كيف يأتي الله أمراً ضعيفاً، وهو القائل: “لا أرسل كلمتي وتعود إليَّ خائبة”. علينا أن نفهم معنى الجهالة، ومعنى الضعف.
لقد إختار الله العبرانيين في مصر، ومن أقل القبائل الموجودة هناك، شأناً، عبيد، يعملون بالسخرة، لا يتناولون طعاماً كباقي الناس بل من أفقره وأدناه، وليس لهم سلطة حتى للإبقاء على أبنائهم أحياء. فأخرجهم الله من أرض مصر، وهم على هذه الحالة بقيادة رجل هارب ألثغ اللسان. لقد وكَّلَ إليهم الله الأمانة لكي ينقلوها الى بقية الشعوب، ولكنهم إحتكروها لأنفسهم، ولمصالحهم، ونسوا أنهم اختيروا من أضعف الخلق للقيام بمسؤوليّة نقل الإرادة الإلهية فرفع الله عنهم قوته إذ اكتفى الشعب بما هو عليه.
القوَّة العالميّة نتيجتها القهر، الموت، الدمار، التسلط، الظلم، الحروب، الطمع، تحقير الكرامة البشريّة. أما الضعف الإلهي فيؤدي الى الحياة والكرامة والسلام والإطمئنان، وهذه ليس من ناموس ضدها.
أما القوّة العالميّة فكل الناس ضدها حتى الذين حصلوا عليها، فهم
لا يتقبلون تنفيذها عليهم، ولا ممارستها من قبل الآخرين في حياتهم هم. فالقوّة البشريّة تحمل فناءها بذاتها. أما الضعف الإلهي، أي المفهوم بحسب البشر ضعيفاً فهو الدائم والمشتهى والذي لا يرفضهُ إنسان في حياته، ولا على عائلته أو أولاده. وكما وكَّلَ الله العبرانيين الضعفاء لحمل المهمة والمسؤولية هكذا في العهد الجديد أوكَلَ المهمة (البشارة) لرجال لا مكانة إجتماعية لهم، ولا علم، ولا سلطة أو ما شابه ذلك. عندما وقف بطرس ويعقوب أمام باب الهيكل في أورشليم وتفرسا بالذي يده يابسة لم يكن لديهما المال بل قال له بطرس ما لي إياه أعطيك، وأعطاه صحة يده التي عادت معافاة. ولو دفع مال العالم لما عادت يده صحيحة.
محبوا الله والذين تركوا كلَّ شيء محبة به. غادروا العالم ولم يعتبروا منه شيئاً ذا قيمة. أما الناس الذين يتلهون بالعالم وسلطته وقوّته وماله. نجدهم يركضون وراء أولئك في الأديار والمناسك والوديان والجبال لسماع كلمة تريح ضمائرهم المثقلة، وتهدئ من روعهم، وتصالحهم مع ذواتهم.
لأسباب ما تخاصم أسقفان، وحصلت القطيعة بينهما، وعند حلول عيد الأبرشيّة الأخرى طلب الأسقف الجار من رجال الإكليروس في أبرشيته مرافقته للإشتراك في أعياد الأبرشية الأخرى. فقال له كهنته وشمامسته ألا ترى مدى بغضه لنا. ألا ترى كم من التهديد والوعيد يطلق ضدك. فقال لهم سأذهب وسأترأس في الأعياد، وكان ذا قلب سليم وطوية صالحة. فانطلقوا معه تحت إصرار محبته، ولما وصل الى حيث يوجد الأسقف الآخر سجد أمامه الى الأرض طالباً منه المسامحة فمست النعمة قلب الأسقف وطلب منه أن يترأس الأعياد. ممكن أن لا يرضى الناس بهذا، ولكن الأسقف في موقعه المتواضع كان أقوى من تعنت الأسقف الجار.
نعم أيها الإخوة الأحباء، ونحن في حياتنا لنرى أين هي حكمة الله في ما نعرف ونعمل، وما الذي يريده منا مسلِّمين ذواتنا بين يديه وخاضعين لإرادته. وسنعرف حينئذ أننا إذا أردنا السلام والإطمئنان والسلوك في طرق الخير علينا أن نسمع كلمته على فم العذراء مريم: “حط المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين، أشبع الجياع من الخيرات والأغنياء أرسلهم فارغين.
يخبرنا الرسول بولص أن رجالات الله القديسين المضطهدون، المشتتون، المقهورون، المرذولون قد قهروا الممالك. ولا أدل على ذلك أكثر من جلوس المسيحيّة على عرش الإمبراطوريّة الرومانية والأرمنية، وأثرت تعاليمها السمحة بالفكر البشري قاطبة. يؤكد على ذلك القديس يوحنا الذهبي الفم الذي قال: “يشتهي الملوك أن يدفنوا عند أقدام الصيادين، وصار الصليب أفضل زينة ترتفع فوق رؤوس الملوك”.
إذاً مع داود النبي نقول لا تتكلوا على الرؤساء، ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص تخرج روحه فيعود الى ترابه. كزهر الحقل الذي تذريه الريح لا يعرف موضعه.
القوّة في المسيحيّة أن تقوى على ذاتك وشهواتك، وتتغلب على خطاياك والشائن من تصرفاتك.
إن رب البيت الذي يظهر لطفاً ووداعة في بيته يكسب أهل بيته. وكذلك الموظف في عمله. والطالب في مدرسته. لا يبنى العالم بأيدي المتسلطين والمتجبرين، بل على أيدي أصحاب البيوت السلامية، وأعمال العلماء المعلنين كلمة الله الموجودة في الطبيعة والموجدة لها. هذا ما تشتهيه القلوب هذا الضعف الذي يجعل الإنسان منتصراً.
ونعلن أن ما يعتبره الناس تخلفاً هو ما يشتهون عيشه والعودة الى أيامه. أعادنا الله جميعاً الى تلك الأحوال الفاضلة. والنقاء والقلوب الصافية المليئة بالنعمة غير المعقَّدة بحكمة هذا العالم الذي ليس فيها خلاص.
وكل عام وأنتم بخير.
باسيليوس
مطران عكار وتوابعها