كلمة الراعي
كلمة للحوار
مَنْ ترك مَنْ ؟
الإخوة والأبناء الأحباء
يكثر في هذه الأيام إتهام الكنيسة كمؤسسة، بالابتعاد عن حياة الناس. أو عن انسحابها من حياة قدسيَّة نرُّدها إلى الماضي، ولكن على الأغلب هي فكرة طوباويّة تدغدغ أحلامنا، وتملأ ساحات وميادين أذهاننا وكأنها كانت في الماضي. ولكنها في الحقيقة آمال تنتصب كنموذج نتمنى تحقيقه.
فهل صحيح أن المسؤولية تقع على عاتق الشماس والخوري والمطران، وهل هؤلاء مقصرون في عملهم وتنفيذ ما عليهم القيام به. السيد له المجد، يقول: “مهما فعلتم قولوا نحن عبيد بطالون”، وعلى هذا الأساس مهما صار من إيجابيات، ومهما تحقق نشعر بالتقصير جرياً على الآية والوصية السيدية.
من ايجابيات العمل الكنسي في الوقت الحاضر. وجود المؤسسات التي ترعى شؤون المؤمنين في كثير من الأمكنة. وقد تتفاوت نسب وجودها بين رعية وأخرى، وبين أبرشية واخرى. بينما كان وجود هذه المؤسسات في السابق نادراً، وكانت تحت سلطة لجان لا تهتم لشأن الجماعة. ويعترض عمل هذه المؤسسات أنها لا تستطيع استيعاب أماني جميع المؤمنين وتحقيقها. لأن الكنيسة مكوّن من مكونات المجتمع المدني، وفي كثير من الأحيان يكون المؤمنون في المجتمع من أقل وأضعف مكوناته. لا يرحم كثيرون من أبناء الرعيّة هذه المؤسسات، لأنها لم تلبي طلباتهم، اما في العداء واما في الصداقة. وتنطلق الألسن، سليطة، لا ترحم في حق الكنيسة وعملها وعمّالها وتبدأ الدعايات المغرضة. حتى ليظن الإنسان أن هذه المؤسسة أو تلك من المؤسسات
التابعة للكنيسة أو جميعها هي لبلد عدو أو مؤسسة تريد دمار مجتمعاتنا.
أيها الأخوة الأحباء، مؤسسات الكنيسة هي لكم وعلى الغالب ليست منكم. ولإيجادها لم تحرك الأغلبية ساكناً ولم تتحمل مسؤولية، وأيضاً هناك تفاوت في صدقية هذا الكلام وتحميله للناس بحسب المناطق والنوعيّة.
كلنا نسمع عن الماضي. أن من يريد ان يصبح كاهناً أو اكليريكياً كان اختياره يجري على أساس العطاله عن العمل. أي العاطل عن العمل وصاحب الصوت الجميل (هاتو اعملوه خوري تيعيش)، بينما في أيامنا هذه أغلب الكهنة أصحاب شهادات جامعية، لابل شهادات جامعية نوعية ومرموقة. وأغلبهم في أبرشيتنا موظفون. ومع ذلك لا تريدون تغيير الصورة النمطيّة القديمة عن الكاهن التي ورثناها من زمن غابر.
في الماضي كنا نتكلم عن بعض الكهنة أنهم لا يعرفون فتح الكتاب بالطريقة الصحيحة، أليس الكهنة في أيامنا هذه أحسن حالاً بما لا يقاس.
في مجال العمل الرعائي المباشر. لم يعد الكهنة محجوزون في العمل الخدماتي الليتورجي، بل يقوم الكهنة بالزيارات الرعائية، بالدور التعليمي، بالدور الاجتماعي، وعلى الأغلب في كثير من الأحيان والأحداث والأمكنة يبكون مع الباكين ويفرحون مع الفرحين، ويصبحون كلاً للكل ليربحوا الكلَّ للكنيسة.
كان الكاهن يعيش في الماضي من أرضه إن وجدت، وما يقدمه المؤمنون من أعشار المواسم في أوقاتها، وكانت أحياناً زائدة عن حاجته. اليوم تحاول الكنيسة هي أن تهتم بمعيشة المؤمنين، وتقدم لهم الوظائف وتساعد الكثيرين منهم في تربية أبنائهم. وانخرطت في هذا المجال أغلب الأبرشيات حتى وصل الأمر في أغلبها إلى تكثيف الاهتمام بشؤون الأرض والبقاء، يا ترى هل يهتم المؤمنون بشؤون الكنيسة و شؤون الجماعة على ذات المستوى.
بالنسبة للمنطلقات في التعامل، تحرص الكنيسة بشكل عام، للحفاظ على المؤمنين من منطلقات ثابتة. فما هي المنطلقات الثابتة عند المؤمنين للحفاظ على وجودهم في الكنيسة وتفاعلهم مع معطياتها للإبقاء على هويتهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم.
يخاف الأكليريكيون على المؤمنين ويسعون جاهدين للحفاظ على مصالحهم وحقوقهم. هل يعمل المؤمنون بذات المستوى؟!
مثلاً في الضيقات ألا يقبلون بأي جماعه أخرى تقدم لهم أفضل مما عندهم في الرعية وخير مثال على تصرّف البعض في الحروب الدائرة والتي حدثت في الماضي البعيد والقريب. يمكن أن نستسيغ نقد المؤمنين في حال التقصير المقصود ولكن النقد الجارح يزداد حتى عند الجهاد الحسن والخدمة الطيبة لأجل الرعيّة وخدمة لأفرادها، ليثير الناقد الانتباه إلى أنّه عارف.
تجارب هذه الأيام ترينا هشاشة تعلّق الناس بالكرامات والأخلاق، بينما تعمل الكنيسة بقدر المستطاع للحفاظ على كرامات الناس وأخلاقهم. ويتساوى المحتاج وغير المحتاج في النق والنقد، وكأن العطاء من حق الجميع.
أيها الإخوة والأبناء الأحباء،
الكهنة أبناؤكم، تربية مجتمعاتهم. يعيشون في كثير من الأحيان ما تعلموه في بيوتهم، ولا يتركون ذلك بل يستمرون عليه ويطبقونه في التعامل معكم وفي خدمة الرعيّة، وإن تعوّدوا على الآحاد والأعياد الكبرى. سيبقون على ذلك في خدمتهم وقد يتطوّرون من العِشرة الحسنة للخدام المجدّين.
أهم ما نسمعه من الناس يتمركز حول معيشة الكاهن، فأقرباء الكاهن وعائلته وأهله يريدونه مرفّهاً ذا مرتب عالي. أما بقية الرعية يتسألون في ألف سؤال وسؤال ويظنون أن الكاهن والمطران تأتيهم الأموال فيّاضة غزيره وفي بعض الأحيان يظنون أنّهم إنما هم موظفون. لا والله! في كرسينا الانطاكي أغلب المطارنة ورؤساء الأديار والكهنة المتبتلين ضحّوا بأضعاف أضعاف ما يحصلون عليه من الرعية وفقدوا السلامة في العمل نتيجة للتذمر وعدم الاعتراف بالإيجابيات وقد يكون ذلك إما بتحريض من جمعيات سرّية أو أحزاب ملحدة أو طوائف تقتنص في الماء العكر وللأسف يوجد بين المؤمنين من يمسكون معول الكلام والنقد الجارح ويعملون على هدم معنويات الرعية إما بسبب الخوف من النهضة الحاصلة أو حفاظاً على مكانة تطبيقاً للمثل القائل “هذا حصرم رأيته في حلب”.
أيها الإخوة والأبناء الأحباء، لي كلام كثير في هذا المجال وقد وصلت إلى القناعة التامة أن المؤمنين ينزعون للابتعاد عن الكنيسة ليس بسبب الأخطاء فقط بل لأنهم قد اقتنعوا بأن ما تعلّمه عن المحبة والإخلاص والعائلة والتضامن والأخوة والأمر بالمعروف والنهي عن الأخلاق السيئة لم يعد من متطلبات العصر الحديث الذي صار فيه الناس يرفضون العفة، ويفاخرون بالخطيئة، يطلبون التعرّي ويفاخرون به بدل الحشمة. صارت أخلاقيات الإيمان مطلوبة من الآخرين ولا يطلبها الشخص من ذاته ليس الكثيرون هم الذين يطلبون الحكمة من الكتب المقدسة بل يريد حتى المؤمنين العاملين أن يصبحوا حكماء بحسب هذا العالم. أطرح على محبتكم سؤالاً، هل العمل الكنسي أفضل حالاً في هذه الأزمنة مما كان عليه في الماضي؟ فمن انسحب من حياة الآخر الكنيسة أم الناس؟!
كلمة سأقولها: الناس ينسحبون من الإيمان وحياته، فيبتعدون عن الكنيسة والصلاة ولم تعد الكنيسة قضيتهم بالرغم من أنّ الناس هم قضية الكنيسة الدائمة. إننا في هذا الشرق نصارع صراعاً حاد للابتعاد عن أنفسنا تحت جناحي رحمة الله ومحبته، ولكننا قد وصلنا إلى انفصام في الحياة والتوجه ولن يوحدنا مع أنفسنا إلا يسوع المسيح وحده بدمه الكريم وبالحياة معه له المجد مع أبيه وروحه القدوس، ونعمته لتكن مع جميعكم آمين.
باسيليوس
مطران عكار وتوابعها