آخر الأخبار
الرئيسية 5 كلمة الراعي 2017 5 كلمة الراعي – العدد 36

كلمة الراعي – العدد 36

محبتنا بين لله والعالم

الصلاة هي فنّ الفنون، تجمع بين السهولة والصعوبة في آنٍ واحد. كلنا نقول بأننا نحب الله، ونحن صادقون، ولكن إلى حدٍّ ما. من منا صُلبٌ في محبته لله؟ من منا لا ينكسر حديثه مع الله إذا ما ضجر أو تعب أو تململ؟ المحبة الصادقة ليست صادقة في المواقف بل في المسيرة. الصدق في اللحظات جيد، ولكن ليس بكافٍ. الصدق لا يبرز إلا على مدى الزمن. يحتاج الصدق إلى الزمن كي ينجلي، والزمن بدوره هو الكفيل بأن يُمحص محبتنا لِمَن نَدَّعي بأننا نحبهم. لا أحد منا يرضى بمحبوب يحبه قليلاً، إذ على الفور ننبذه ككاذب ومُدَّعي في محبته لنا، فكم بالحري الله، كيف يمكن أن ننادي ونقول أننا نحب الله بالشفاه، في حين أننا بالأفعال قد رتبناه في آخرِ إهتمامتنا.

أمام التعب، أمام الضجر، أمام الإحباط، أمام الروتين، أمام المشاكل يسقط الله من حياتنا، فلا نعود نصلي أو نؤجل صلاتنا وتبقى أبواب الصلاة موصدة، وفي أحسن الأحوال نكتفي بصلاة قليلة من باب الواجب، لكنها سرعان ما تذوي و تذبل. في مجتمع استهلاكي يميل الكل فيه إلى الراحة وإشباع الرغبات، تتشوه المحبة. إذ، ومن دون أن نشعر، ترتبط محبتنا برغباتنا وبإشباعها. وبسبب غزارة المنتجات ووفرتها وجدَّتها، تتوافر لدى الرغبة دائماً الموضوع الملائم الجديد لكي تشتهيه وتسعى إليه في كل مرة. تعمل هذه الآلية كدوامة، تسحب كل من يعلق بها. وهكذا يقضي الإنسان سنين حياته مُنهكاً، يُطفِئ عطشه بعطش أكبر من دون أن يرتوي. الشص الذي علق فيه، هو التصاق محبته بإشباع رغبته. ولهذا فمن ميزات ابن مجتمع الإستهلاك أن يأكل ولا يشكر، أن يحصِّل ولا يفرح وإذا تساءلنا  لماذا؟ لأن يرى أن هناك الكثير من الأشياء التي لم يحصل عليها بعد، فلماذا عليه أن يشكر أو أن يفرح، طالما أن رغبته لم تحصل على كل شيء بعد .

ولهذا، إذا أردنا توصيف  “نفس” ابن المجتمع الإستهلاكي فهي “النفس الفاقدة الشبع”، وهو التوصيف ذاته الذي ينطبق على يهوذا الخائن. لهذا إذا تساءلنا من هو الله بالنسبة إلينا أناس هذا المجتمع؟ أغلب

الظن أن الله استحال إلى إله خادم لرغباتنا، يترتب عليه أن يلبي مشتهاياتنا، وطبعاً يبقى اعترافنا بإلوهيته وتسبيحنا له رهن جوابه وردوده على احتياجاتنا. وإذا حاول الواحد منا كسر هذه المنظومة بأن يجعل من الله الإله الحبيب، فسوف يتواجه بظواهر عدة لم يعتَدْ عليها من قبل. ومنها كيف يمكن أن نحب الله أكثر من ذواتنا، أن نرغب بالله أكثر من العالم ومن راحة العالم، وأن نعيش هذا؟ بالطبع ليس في مواقف أو لحظات فالله حبيب لا يرضيه الفتات، الذي لا يُرضينا نحن أصلاً. ولهذا عندما يقرع جرس الكنيسة صباحاً داعياً إيانا إلى الصلاة، نضعف أمام التعب أو إذا ما غلبنا النعاس، أو أمام الإهتمامات الكثيرة أو المشاكل العديدة، فلا نعود نصلي، وإذا صلينا لا نستمر في الصلاة، وقد نقطع صلاتنا ونخرج من الكنيسة، فالله ليس عوني في ضيقي، وأنا من عليه أن أواجه هذه الصعوبات لوحدي، وفي أفضل حال قد أطلب مساعدة الآخرين ولكن ليس الله، وإذا حدث وطلبنا الله، فهذا يحدث بالشفاه فقط. لا نواجه بالله مشاكلنا بل لوحدنا وأحياناً قد نُشرك بها الآخرين.

عند أي اعتلال صحي بسيط قد نتوقف عن الصوم، وأكثر من هذا قد نكسر صومنا أمام رتابة طعام الصوم المتقشف والممل. والعذر الأكبر الذي قد نتذرع به بأن الله محبة والدقة في التفاصيل الصغيرة ليست سوى فريسية لا تمت بصلة إلى الحياة الروحية الصحيحة. أمام هكذا منطق في التفكير قد نجيب بأنَّ الرؤيا في البداية صحيحة ولكن المعالجة هي الخاطئة. فالله في الحقيقة محبة، ولكن محبته كتساهل وتجاوز، وبكلمة أدق، كرحمة، هي مع محبيه، أي مع الذين بذلوا الغالي والرخيص من أجله،  وليس مع البخلاء في محبتهم لله. الله محبة، في أن نحبه نحن، وليس أن تسهو محبته على مظالمنا وكسلنا ورخاوتنا. أما التفاصيل الصغيرة التي قد نتبرم منها كالمداومة على الصلاة والصوم، فهي بمثابة الأمانة التي وضعها الله بين أيدينا والوزنة التي رتبها على مقاسنا كي نتدرب بها بشكل جيد استعداداً فيما بعد لمستويات أصعب وأكاليل بالطبع أكبر، فلماذا نتذمر منها؟

النسك المسيحي واحد ولكنه يعرف درجتين أو مرحلتين. نسك خارجي ونسك داخلي، نسك الممارسات والعبادة، ونسك القلب والمخدع الداخلي. نسك ظاهر ونسك خفي. النسك الأول هو مُدرِّب للثاني ولا يمكن أن نصل للثاني إلا مروراً بالأول. نسك الممارسات مفيد ولازم، ولكن فقط كمرحلة أو محطة من أجل الوصول إلى نسك القلب، بحيث إذا ما بلغه الواحد منا، يمكنه آنذاك أن يتحرر من النسك الأول. فما يراه الله وما يريده هو نسك القلب وليس نسك المظاهر. ولكن كثيراً ما يتسرب برياءٍ وخديعة الكسل والرخاوة واليأس بين كلا النسكين ويضرب الثاني بالأول ويحرفنا كلياً عن مسيرة النسك، أي بعيداً عن الله. بمعنى، كثيراً ما يُشدد الكسل على أهمية نسك القلب وسموه مشككاً بنسك الممارسات، انطلاقاً مما يعتري مسيرة ذاك الأخير من ضعفات أو أخطاء أو تخبُّط، هي طبيعية جداً طالماً أننا نحن المبتدئين لا نزال بعد في مرحلة تعليمية وتدريبية. وبذلك يدفعنا بكل رياء إلى طلب النسك الأسمى من دون الأول، وبذلك نخسر كلّاً من النسكين ونفقد الله.

صعوبة التحدي تكمن في الراحة التي يميل إليها الإنسان. العالم يقدم راحة والله يقدم راحة، ولكن شتان الفارق بين الإثنين. راحة الله يسبقها التعب بينما راحة العالم يلحقها التعب. الرغبة الإنسانية تبتغي الراحة ولكنها لا تريد التعب ولا الألم ولهذا فهي تميل إلى راحة العالم. تخدعها راحة العالم بسبب عنصر “السهولة” الذي فيها، رغم أنها تشقى فيها. “شقاء” راحة العالم ناجم عن أنها راحة من أجل الراحة. وهذا مبدأ يُفسد الراحة ويُتلفها ويُفقدها معناها. الراحة الصحيَّة هي التي يسبقها التعب. نرتاح لأننا متعبون وليس طمعاً بالمزيد، فالمزيد ليس سوى خمول وكسل.  إنهاض “الرغبة” في تغيير خيارها من العالم إلى الله لا يخلو من الجنون في أن نجازف. والمجازفة هي مجازفة “التعب” لكن  “التعب بما هو لله” أولاً، والتي وكثيراً ما يدفعنا إليها، “الشقاء” الذي نختبره من بعد التلذذ براحة العالم. إنَّ النفس البشرية مفطورة على نبذ الألم، ولهذا كثيراً ما يستحيل “ألم الشقاء” أو “ألم الفراغ” الذي يستتبع تمتعنا بلذة ما مادية، قوة تدفعنا إلى نبذ تلك المتع تجنباً لما تُلحقه بنا من ألم، وأن ننشد عوض عنها ما هو أصيل، ألا وهو الله. فمن لمس عشق الله قلبه يستحيل عليه أن يستبدله بأي عشق مادي آخر. ومن صلَّى مرة واحدة حقاً، لا يمكنه إلا أن يصلي في كل مرة.

ولكن ماذا يعني أن محبتنا ملتصقة بلذائذ هذا العالم؟ هذا ليس سوى دليل على أنَّ كياننا بأكمله يتفاعل بكليته، ومن دون الله، مع هموم هذا العالم واهتماماته ومشاكله. فمَنْ التصق بتلبية لذة ما، هو شخص في الأساس يُستنزف ويُنتهك من قبلِ هموم هذا العالم ومشاكله، التي بدورها تُلقي به في واحات كاذبة من الراحة تُغرِّرَهُ، بحيث إذا ما مضى إليها طمعاً بتعزية ما، يُلطِّف بها أتعابه أو أحزانه أو ضجره، سرعان ما تُغرقه أكثر وأكثر في الإحباط والعدمية. لهذا حتى ننجح في أن نجعل الله موضوعاً لرغبتنا، علينا أن نجعله محوراً لكل حياتنا. وهنا علينا أن نعلم، أنه الله قد لا ينزع بالضرورة عنا أحزاننا ومتاعبنا ومشاكلنا ولكنه حتماً يُعيننا على حملها واحتملها.” تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ”.

إنَّ مقولة الرسول بولس “افتدو الوقت لأنَّ الأيام شريرة”، ليس فقط لأن الزمن لا يعرف التوقف ويسحب الكل معه إلى الموت، بل أيضاً لأن مواجهة الذات أو بالأحرى الإختيار ما بين العالم والله هي المواجهة الأصعب والتحدى الأقسى على الأطلاق، وهذا ما يجب أن نتدرب عليه حتى نتذوق أكاليل محبة الله بدءً من هذه الحياة وبالملء في ملكوته السماوي، آمين.

الأرشمندريت يعقوب الخوري